أطلق علماء الاجتماع في أمريكا صيحة تحذير قوية مفادها أن صورة الأسرة الأمريكية التي كانت معروفة باتت في طريقها إلى أن تكون "كائنًا معرضًا للانقراض"[1].
وقد يختلف المعنيون بالشأن الأسري في ماهية العوامل المؤدية لذلك، لكن يتفق الجميع على حقيقة واحدة مفادها أن مؤسسة الزواج الأمريكية باتت في خطر، ففي الوقت الذي تفاقمت فيه معدلات الطلاق خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تراجعت معدلات الزواج، فضلاً عن الزيادة المطردة في عدد الأسر التي يعولها أب منفرد أو أم منفردة، والأسوأ من ذلك تزايد ميل الأقران هناك إلى إسقاط الزواج من خياراتهم، أو على الأقل تأجيله والعيش معًا في إطار ما يطلق عليه "المساكنة".
وتتداخل وتتشابك العوامل التي تسهم في تراجع أهمية مؤسسة الزواج هناك، ولن يتسع المقام لذكر كافة العوامل -مع أهميتها جميعًا-، ولكن يمكن في مقالنا هذا أن نستعرض بعضًا من الأدوار التي قام بها الفكر النسوي في تدمير الأسرة الأمريكية، على أن نفرد في مقالات لاحقة الحديث عن بقية العوامل تباعًا، وسوف نستأنس في حديثنا بدراسات علمية وإحصاءات مستقاة من ناشطات أمريكيات، ضقن ذرعًا بالأثر المدمر لهذا الفكر، وعكفن على تقييم أطروحاته بعد مرور ما يربو على قرن ونصف من الترويج له داخل المجتمع الأمريكي.
دعوة للتحرر من الأسرة

يؤمن الفكر النسوي بكافة أجنحته من أقصى اليمين لأقصى اليسار، بأن الأسرة صفقة خاسرة لا يستفيد منها إلا الرجل، بينما هي للمرأة قيدٌ وأعباء، وحصر لدورها في الإنجاب والرعاية، وتتفاوت مواقف النسويات من الأسرة ما بين الإبقاء عليها مع إدخال تغييرات على هيكلها أو طبيعة العلاقات بداخلها، وما بين رفضها تمامًا، فالاتجاه الأول وتمثله الليبراليات اللواتي يرددن مقولات الليبرالي جون ستيوارت ميل، وأبرزها "لا يوجد شيء في هذه الدنيا يستحق التضحية بحرية الفرد، ومن ثم فكل امرأة يعولها زوجها -حتى لو كانت رعايته لها جيدة- قد باعت في الواقع حريتها بثمن بخس، عندما استبدلت بها الطعام والمأوى، ولا يمكن لأي إنسان حر أن يفكر في مثل هذه الصفقة دع عنك أن يقبلها"[2].
بينما يرى أصحاب الاتجاه الثاني، وغالبيتهن من الشيوعيات والماركسيات والراديكاليات ونسويات التحليل النفسي، أن أول اضطهاد في التاريخ وقع من الرجل على المرأة في إطار الصراع بينهما داخل مؤسسة الزواج، بل إن الزواج ذاته اخترعه الرجل؛ ليضم المرأة إلى ملكيته الخاصة.
وعلى هذا فإنه كي تتحرر المرأة لابد من العودة إلى المشاعية الأولى، حيث حرية المرأة تقتضي أن تكون حرة في علاقاتها الجنسية مع الرجال، ليكون بمثابة إعلان أنها ليست ملكًا فرديًّا للرجل، وهذا لن يتحقق إلا بالتحرر من الزواج والارتباط بأسرة، وعن الأطفال الذين قد ينجموا عن علاقاتها المشاعية الحرة مع الرجال، فسوف يتولاهم المجتمع بمؤسساته الرعائية، وحاولن تدعيم أطروحاتهن تلك استنادًا إلى قراءة كارل ماركس للتاريخ، ومقولات فردريك إنجلز من قبيل: "... إن التدبير المنزلي سيتحول إلى صناعة اجتماعية، فتنتقل العناية بالأطفال وتربيتهم إلى الدولة؛ لأن المجتمع هو الذي سيرعى أمرهم، سواء أكانوا أولادًا شرعيين أم غير شرعيين"[3].
تطور الفكر النسوي
عُقد أول مؤتمر لحقوق المرأة في "سينيكا فولز" يومي 19و20 يوليو عام 1848م، أصدرت فيه النساء اللواتي اجتمعن -وأبرزهن اليزابيث كادي ستانتون، ولوكريشيا موت- أول إعلان لحقوق المرأة، مستعرضًا ما اعتبره مظالم عانتها النساء في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ينص على: "نؤمن بأن هذه الحقائق بديهية:
• أن جميع الرجال والنساء خُلقوا متساويين، وأن تاريخ البشرية هو تاريخ الإيذاء والاغتصاب المتكرر للمرأة على يد الرجل، ويُقصد منه مباشرة بسط الطغيان المطلق عليها.
• أن الرجل سعى بكل طريقة ممكنة لتدمير ثقتها بقدراتها، وتقليل احترامها لذاتها، وجعلها مستسلمة لحياة ذليلة واعتمادية.
في ضوء هذا الإذلال الديني والاجتماعي، وفي ضوء القوانين الظالمة المذكورة أعلاه، ولأن النساء تشعرن بالإيذاء والقمع، فإننا نصر على: أن تحصل النساء فورًا على كل الحقوق والامتيازات التي تخصهن بصفتهن مواطنات أمريكيات"[4].
وما إن انتصف القرن العشرون حتى تبلور هذا الفكر وتطور بقوة في أمريكا، تحديدًا في عام 1963م، حيث بدأت النسويات الضغط من أجل إحداث تغييرات اجتماعية وقانونية، وذلك عقب ظهور كتاب النسوية الأمريكية لبيتي فريدان[5]، المعنون بـ "اللغز الأنثوي"The Feminine Mystique ، والذي يعتبره البعض تدشين للموجة الثانية من الحركة النسوية الأمريكية، تهاجم فيه بشدة ربات البيوت وتطالبهن بالخروج للعمل، وتقلد أدوار ووظائف كانت قاصرة على الرجال، كما طالبت المرأة الأمريكية بأن تتنبه لما يدور حولها، مما أطلقت عليه "مكائد ذكورية" تقنع المرأة بأن البيت هو غاية الحياة ومبتغاها، أو "معسكر الاعتقال المريح".
ولمواجهة ما اعتبرته بيتي فريدان "عطب" تنصح فريدان بتحطيم أسوار معسكرات الاعتقال المريحة، وتخطي البيولوجيا وجدران البيت الضيقة؛ للمساهمة في تشكيل المستقبل، وتقترح هنا استعادة "الذات المصادرة"، داعيةً إلى تحقيق "الشجاعة في أن تكون فردًا"، والانخراط في تفكير جديد ينسف المسلّمات التي جعلت المرأة تتكيّف مع قيودها، تحت صفة "المهنة: ربة منزل"، كما دعت النساء إلى الكفاح من أجل تحقيق هوياتهن، بالخروج والإفلات مما أطلقت عليه "الفخ وخدعة تحقيق الذات بالزواج والأمومة"[6].

وفي كتابها المعنون بـ"المرحلة الثانيةThe Second Stage " تُشير إلى أن المرأة المتزوجة هي الأكثر تعاسة ومعاناة للاكتئاب بين أفراد المجتمع، وكيف أنها تتبنى بتلقائية المهام المنزلية كرعاية الأطفال وأعمال المنزل، حتى وإن كانت تعمل بوظيفة خارج البيت، بينما لا يُتوقع من الرجل أكثر من الاهتمام والتركيز في مهنته، باختصار إن النساء تحظى من الزواج بصفقة سيئة، وأن عليهن إعادة التفاوض حول بنود ذلك العقد"[7].
وتقول روبين مورجان محررة في مجلة "ميس" النسوية: "لا يمكننا تدمير الفروقات بين الرجال والنساء دون أن ندمر مؤسسة الزوجية"[8]، وتعقب كاري إل. لوكاس على هذه المقولة بقولها: "وكذلك تزخر كتب الدراسات النسوية المقدمة للطالبات في الجامعات الأمريكية بعناوين فصول مثل: "الحياة الشخصية للنساء.. تأثير التمييز الجنسي على النفس والعلاقات، وبالداخل عناوين ثانوية مثل مساوئ الزواج"[9].
مأسسة العدائية للزواج
تكونت في الستينيات جمعية راديكالية تحمل اسم "الفيمينست"، تضمنت في شروط عضويتها بعض المحاذير المتعلقة بالزواج فتنص على:
• حيث تؤمن "الفيمينست" بأن الظلم عنصر متأصل في مؤسسة الزوجية، سواء على الصعيد الرسمي (القانوني)، أو على الصعيد غير الرسمي "الاجتماعي".
• وحيث نعتبر أن مؤسسة الزوجية هي صيغة تطبيع لاضطهاد المرأة.
• وحيث نؤمن بأن مناهضة هذه المؤسسة سواء على الصعيد النظري أو التنفيذي هو علامة أساسية للفكر النسوي... فإن لدينا لائحة للعضوية لا تسمح بأن تُشارك أكثر من ثلث أعضاء الجمعية -بشكل أو بآخر- في مؤسسة الزوجية، سواء بصورة رسمية (عقد قانوني) أو غير رسمية (مساكنة رجل)"[10].
وسائل للتنفير من الزواج
وقامت الحركة النسوية الأمريكية بجهد كبير في تنفير الرجل والمرأة من الزواج من خلال عدة وسائل، منها:
• تزييف وعي الفتيات بأن الأسرة مؤسسة ذكورية شريرة:
قامت كريستينا ستولبا، والتي تكتب لمنتدى "المرأة المستقلة"، بمراجعة المناهج الخاصة بفصول الدراسات النسوية التمهيدية، والتي تقدمها ثلاثون كلية مختلفة، فوجدت أن كل تلك المناهج تعتمد على عدد محدود جدًا من الكتب الدراسية، وبقراءة جميع تلك المراجع وجدت كمًا هائلاً من المعلومات المشكوك في صحتها، والتي يتم تقديمها للطلاب الأمريكيين وكأنها حقائق مسلمة، وجميع هذه الكتب الدراسية اعتبرت أن فكرة الزواج والاحتفاظ بالجنس للزواج تنبع من تلك المؤسسة الذكورية الشريرة البدائية المسماة "الباترياركية"[11].
• إلصاق العنف بالرجال وبخاصة في الأسرة:
عادة ما تومِئ النسويات إلى أن الرجال بشكل عام خطر على سلامة المرأة، بل إن العلاقة الجنسية الطبيعية في حد ذاتها في عرف الحركة النسوية هي علاقة تفيض بالخطر على صحة المرأة العاطفية والجسدية واستقلالها الشخصي، وتروج مرارًا وتكرارًا عبر الإحصائيات المبالغ فيها أن العنف ضد المرأة هو أمر حتمي في وجود الرجال ولا مفر منه، وبالأخص داخل مؤسسة الزوجية، بل صار لا يُذكر الزواج إلا حين الحديث عن العنف المنزلي، وكأنه مشكلة لا تتواجد إلا بين هؤلاء الذين جمعهم الميثاق الغليظ أو الرباط المقدس.

وقد أحدثت المغالاة في ترويج المفاهيم التي ترى أن "الزواج ترخيص بالضرب" ردود أفعال معاكسة، حيث تناولت كل من "ليندا مايت وماجي جالاجار" تلك الكذبة في كتابهما المعنون بـ "في إنصاف الزواج" حيث قالتا: "يميل البعض لاستخدام مصطلح العنف المنزلي، ومصطلح العنف ضد الزوجة، وكأنهما مترادفان قابلان للتبادل، وهذا غير صحيح، فتلك الممارسة اللفظية غير المسئولة تُصور الزواج كمؤسسة تُعرض المرأة إلى خطرٍ شديد، بينما تُشير الدراسات إلى أن المرأة المتزوجة أقل عرضة لأن تُصبح ضحية عنف من كل من المرأة المطلقة والمنفصلة وغير المتزوجة التي تعيش مع رجل، وبدراسة البيانات التي جمعها الاستطلاع القومي لضحايا الجريمة، نجد أن ثلثي الاعتداءات على النساء المصنفة باسم "عنف حميمي" لم يرتكبها الأزواج"[12].
• إرهاب الرجال من الإقدام على الزواج:
لضمان عزوف الرجال أيضًا عن مؤسسة الزواج ابتكرت النسويات في السنوات الأخيرة صياغات جديدة لمفهوم العنف ضد المرأة، وبخاصة في إطار الزواج، تجعل الرجل يعرض عن الزواج، ولاسيما أن هناك علاقات بديلة مستحدثة "المساكنة، المصاحبة، الجنس الكاجوال العابر، علاقات التيك أواي..."، تُمكن الرجال من الاستمتاع بكثير من مزايا الزواج، ليس فقط جنسيًا، ولكن من حيث الصحبة، وتحسن نمط الحياة الذي يرتبط بوجود امرأة تشعر بالسعادة، وهي تطبخ وتنظف لهم، لكن دون ضرورة بذل ما يتطلبه الزواج في المقابل من التزامات.
كما اتسع مفهوم العنف ليشمل كل ما تعتبره المرأة غير لائق، وصار مفهوم "الاغتصاب" في إطار الزواج من المطاطية والغموض، بحيث يجعل الرجل يفكر ألف مرة قبل الزواج بأية امرأة، ومن أمثلة ذلك التعريف الذي قدمته الناشطة النسوية كاثرين ماكينون للاغتصاب، والذي يقول: "من وجهة نظر سياسية يُعتبر اغتصابًا كلما مارست المرأة الجنس وشعرت بانتهاكٍ ما"[13]، أي أن تكييف الواقعة سواء في إطار الزوجية أو خارجها يتوقف على ادعاء المرأة، ونظرتها للأمر، ومدى رضائها عنه، بل ومدى رضائها عن الرجل، والذي بات من السهل التضحيه به لمجرد التعاطف مع المرأة.
وفي كتاب "أوقفوا النيران" لمؤلفته كاثي يونج، تقول بأن ذلك الغموض في تعريف الاغتصاب قد أدى إلى خلق مشكلات عميقة في النظام القانوني، فالتعريف الليبرالي للاغتصاب قد فتح الباب أمام النساء للتجني على الرجال، هذا المقياس الجديد لما يُعتبر اغتصابًا أدى بالفعل لسجن وملاحقة رجال أبرياء[14].
الخلاصــــــــــة
هذا هو النموذج الذي يُراد لنا أن نتوحد خلفه، رغم التباين الشاسع بين الثقافتين، بل ولا يزال يُغرر بالسُذج من بلادنا بإبهارهم به؛ بُغية ربط قاطرة أسرنا المسلمة بقاطرة الأسرة هناك، وذلك من خلال جماعات الضغط النسوية، وما يُجند لها من إعلام مهيمن، لا يمل من ترديد مفردات أجندتها، ومن يعترض يجد نفسه في مرمى نيران تُهمة أننا مجتمع ذكوري.
فلنأخذ حذرنا من تنامي نفوذ نسويات بلادنا، ولنعتبر بالثمار المرة التي يحصدها المجتمع الأمريكي اليوم من جراء الرضوخ لهذا الفكر المدمر، لنستفيق قبل أن تصبح الأسرة عندنا أيضًا كائنًا في طريقه للانقراض.
المصدر: موقع باحثات بتصرف.
____________________________________
[1] Carrie L.Lukas, The Politically Incorrect Guide to Women,Sex, and Feminism, Regnery Publishing, I N C,2006.
[2] جون استيوارت ميل، استعباد النساء، ترجمة وتقديم وتعليق إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة: مكتبة مدبولي، 199م، ص14-15.
[3] لينين ريازانوف وآخرون، المرأة والاشتراكية، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت: دار الأدب، ط3، 1979م، ص 51.
[4] كاري إل. لوكاس، خطايا تحرير المرأة، ترجمة وائل محمود الهلاوي، القاهرة: سطور الجديدة، ط1، 2010م، ص12، 13.
[5] بيتي فريدان (بالإنجليزية: Betty Friedan) (1929- 2006) نسوية يهودية، منظرة وزعيمة الحركة النسوية في الولايات المتحدة الأمريكية في عقد الستينات والسبعينات من القرن العشرين. في أكتوبر عام 1966، قامت فريدان بتأسيس المنظمة الوطنية للنساء NOW، التي ضمت عددًا كبيرًا من الجماعات والمجموعات النسوية في الولايات المتحدة.
[6] بيتي فريدان، اللغز الأنثوي، ترجمة عبد الله بديع فاضل، دمشق: دار الرحبة:
http://www.al-akhbar.com/node/203473
[7] Betty Friedanm, The Second Stage (Summit Books, New York, 1981) p.22.
[8] كاري إل. لوكاس ، مرجع سبق ذكره ، ص98.
[9] المرجع السابق ، ص99.
[10] Radical Feminism, edited by Anne Koedt, Ellen Levine,and Anita Rapone, (Quadrangle, New York Times Book Company, 1973) p.374.
[11] Christina Stolba, "Lying in a Room of Oneُs Own," Independent Womenُs Forum Special Report, july 1 ,2003.
[12] كاري إل . لوكاس، مرجع سبق ذكره، ص88.
[13] المرجع السابق، ص 92.
[14] المرجع السابق، ص94.