القارئ لوثيقة (السيداو) سيكتشف أنها وثيقة متماسكة مترابطة، فجميع المواد تعمل معًا بتناغم ووحدة موضوعية وليست عناصر مفككة، فلا ينبغي النظر إلى مادة بمعزل عن باقي المواد، فعندما تناقش المادة 12 من الاتفاقية قضية تنظيم الأسرة والخدمات المتعلقة والمرتبطة بالصحة الجنسية والإنجابية، لا يمكن فهم هذه المادة بعيدًا عن المادة 10 التي نصت في فقرتها (و) "على إمكانية الحصول على معلومات تربوية محددة، تساعد على كفالة صحة الأسر ورفاهها، بما في ذلك المعلومات والإرشادات التي تتناول تنظيم الأسرة".
استهداف المراهقات

فإذا كان الطلاب المراهقون يدرسون المعلومات والإرشادات المتعلقة بتنظيم الأسرة، فإن توفير هذه الوسائل بشكل عملي في الواقع أمر مرتبط به، فلا مجال للشك أن هذه الفئة تحديدًا من المراهقين غير المتزوجين مستهدفة من واضعي الوثيقة، وهو ما أوضحته منظمة الصحة العالمية، حيث ذكرت أن من فوائد تنظيم الأسرة: خفض معدلات حمل المراهقات، حيث "يفوق احتمال إنجاب المراهقات الحوامل لأطفال لم يكملوا فترة النمو داخل الرحم أو أطفال ناقصي الوزن عند الميلاد احتمال إنجاب غيرهن لأولئك الأطفال. وتفوق معدلات وفاة أطفال المراهقات عند الميلاد معدلات وفاة الأطفال الآخرين. ويضطر كثير من المراهقات اللائي يحملن إلى التخلي عن الدراسة، ممّا يؤدي إلى عواقب طويلة الأجل تتحمّلها تلك الفتيات شخصياً وتتحمّلها أسرهن ومجتمعاتهن المحلية". (1)
فإذا كان زواج المراهقات محظورًا وفقًا لهذه الوثيقة ووثائق أخرى، فإن حمل المراهقات المقصود هنا لن يكون إلا سفاحًا، وبالتالي فلا بد من وسيلة مأمونة لتجنب هذا الحمل!!
إن منظمة الصحة العالمية تصرح بحق الناشطين الجنسيين -بمن فيهم المراهقون- في الوصول السهل لخدمات تنظيم الأسرة، حيث تنص على: "من الأهمية بمكان إتاحة خدمات تنظيم الأسرة على نطاق واسع؛ حتى يتسنى وصول أي شخص ناشط جنسياً -بمن فيهم المراهقون- إليها بسهولة، من خلال القابلات وغيرهن من العاملين الصحيين المدربين. ويتم تدريب القابلات على توفير -حيثما يؤذن لهن- وسائل منع الحمل المتاحة محليًا والمقبولة ثقافيًا. ويقوم كذلك غيرهم من العاملين الصحيين المدربين -على سبيل المثال العاملين في مجال الصحة المجتمعية- بتقديم المشورة وبعض وسائل تنظيم الأسرة، على سبيل المثال حبوب منع الحمل والواقي الذكري. أما بالنسبة لطرق مثل التعقيم، فينبغي إحالة النساء والرجال إلى الطبيب" (2)، وهناك نصوص أخرى تشير فيها إلى التحدي الذي يواجه غير المتزوجين في الحصول على مثل هذه الوسائل.
ملكية الجسد والتحكم في الخصوبة

كما تعمل المادة 12 من (السيداو) جنبًا إلى جنب مع باقي المواد التي تدفع المرأة للعمل المأجور خارج المنزل، فالعمل يوفر للمرأة الاستقلال الاقتصادي عن الأسرة، ويشعرها بعدم الحاجة للزواج، ومنع الحمل يؤكد هذه الاستقلالية، وهذا التفسير ليس تعسفًا بل هو معروف ومنشور وإن أنكرته النسويات في بلادنا، ومن ذلك (اجتماع الخبراء الذي عقد في بتسوانا عام 1992م للترتيب لعقد مؤتمر السكان العالمي، الذي عقد بالقاهرة عام 1994م، وأوصى ضمن توصياته بأن حصول المرأة على مورد رزق مستقل خارج الأسرة يوفر لها التحرر الاقتصادي، وأن اشتراك النساء في القوى العاملة هو العامل الأساسي في تقليل الخصوبة، وأن العمل يشجع المرأة على الشعور بعدم الحاجة للزواج، ولوحظ في الدول الصناعية أنه كلما كثر عدد النساء العاملات قلّ معدل الخصوبة؛ بسبب قيمة وقت الأم وأهدافها الشخصية وطموحاتها). (3).
أما عن المادة 12 من السيداو فإنها تنص على:
"1- تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة، في ميدان الرعاية الصحية؛ من أجل أن تضمن لها، على أساس المساواة بين الرجل والمرأة، الحصول على خدمات الرعاية الصحية، بما في ذلك الخدمات المتعلقة بتنظيم الأسرة.
2- بالرغم من أحكام الفقرة 1 من هذه المادة، تكفل الدول الأطراف للمرأة خدمات مناسبة فيما يتعلق بالحمل والولادة وفترة ما بعد الولادة، موفرة لها خدمات مجانية عند الاقتضاء، وكذلك تغذية كافية أثناء الحمل والرضاعة".
فما هو التمييز الذي يمكن أن يقع على المرأة في مجال الرعاية الصحية؟ هل هناك علاج لأمراض القلب ذكوري فقط ولا يمكن تقديمه للإناث مثلا؟ أم أنه يوجد ثقافة على ظهر الأرض تمنع النساء من التداوي؟ المقصود من هذه المادة هو ما تم توضيحه في المادة نفسها بالخدمات الخاصة بتنظيم الأسرة؟
جاء في تفسير لجنة المرأة بالأمم المتحدة لهذه المادة ما يلي: "تعتبر قدرة المرأة على التحكم في خصوبتها أمرًا أساسيًا لتمتعها بكامل مجموعة حقوق الإنسان، ويتعين بذلك على الدول الأطراف أن توفر لها المعلومات والتوعية بأساليب تنظيم الأسرة المناسبة، والمعتمدة طبيًا، وتكون القوانين المتصلة بتقييد حصول المرأة أو استخدامها لها -على سبيل المثال: اشتراط الحصول على إذن سابق من الزوج أو القريب كشرط أساسي لتقديم الخدمات- منافية لهذه المادة، ويجب بالتالي تعديلها، وعلى الدول الأطراف أن تتأكد أن العاملين في مجال الطب -وكذلك المجتمع- على علم بأن مثل هذا الإذن غير مطلوب، وبأن مثل هذه الممارسة منافية لحقوق المرأة". (4)
قدرة المرأة في التحكم في خصوبتها هي فرع من تحكم المرأة في جسدها، وهي أحد مبادئ الفلسفة الكامنة وراء هذه الوثيقة، فإذا كانت المراهِقة لا تُمنع من النشاط الجنسي، وتيسر لها المعلومات والأدوات اللازمة لمنع الحمل، فإنه من البديهي ألا يسن قانون يشترط إذن زوجًا أو قريبًا لاستخدام هذه الأدوات، حتى المرأة المتزوجة زواجًا شرعيًا يقرر لها هذا الحق بأن تتخذ وحدها ودون اتفاق مع زوجها الحق في منع الحمل أو إجهاضه، كما سيأتي في مواد لاحقه.
واقع الدول العربية

لم تتحفظ أي من الدول العربية على المادة 12 المتعلقة بتنظيم الأسرة، وسعت في تطبيقها بجهد كبير، مدعومة من المنظمات الدولية التي أخذت على عاتقها التكلفة الاقتصادية لوسائل منع الحمل، على أن يقوم الشريك المحلي بنشر ثقافة تنظيم الأسرة.
وهذه بعض نسب انتشار وسائل منع الحمل في بلادنا العربية للشريحة العمرية من 15 - 49 سنة، كما ذكرها البنك الدولي: المغرب 67 %، تونس 63 %، الأردن 61 %، مصر 59 %، الجزائر 57 %، فلسطين 57 %، العراق 53%، قطر 38 %، اليمن 34 %، عمان 30 %، جزر القمر 19 %، السودان 12 %. (5)
فلو أخذنا دولة كبيرة مثل مصر، سنجد أن نشاط تنظيم الأسرة يأخذ زخمًا كبيرًا، وعلى الرغم من انتشار تعبيرات إعلامية مطاطة مثل أنها دعوة لتنظيم النسل وليس لتحديد النسل، إلا أن التصريحات تكشف حقيقة المطلوب، حيث أكد الدكتور عاطف الشيتاني -رئيس قطاع السكان وتنظيم الأسرة بوزارة الصحة- أن محافظة الإسكندرية وصلت للمعدل المطلوب، فى خفض معدلات الخصوبة، لدى السيدات بـ 2.2 طفل لكل سيدة. وأضاف الدكتور الشيتاني، خلال مؤتمر إطلاق الحملة الإعلامية لبرنامج السكان وتنظيم الأسرة، أن الاستراتيجية القومية للسكان تستهدف خفض الخصوبة لدى السيدات لـ 2.4 طفل لكل سيدة، مشيرًا إلى ضرورة التنسيق مع جميع الهيئات للحد من المواليد. (6)
الحد من المواليد للوصول لمعدل 2.4.. هذا ما يصرح به رئيس قطاع تنظيم الأسرة بوزارة الصحة المصرية، هذه الخدمات التي تقدم في 5500 وحدة طب أسرة واهتمام خاص بالمناطق الريفية، حيث أن هناك جيشًا مكونًا من 14 ألف رائدة ريفية تطرق الأبواب للتوعية بتنظيم الأسرة، بالإضافة إلى 6 آلاف مرشدة صحية تابعة لمنظمات المجتمع المدني يقمن بالدور ذاته، ومن المعلوم أن العاملين في قطاع تنظيم الأسرة هم أكثر العاملين الصحيين حصولاً على مكافآت وحوافز تشجيعية، حتى بات يحسدهم باقي القطاعات.
أما في المغرب، والتي هي أعلى دولة عربية في معدل استخدام وسائل تنظيم الأسرة، فهناك جدل مجتمعي واسع للتقارب مع ما تدعو إليه الوثيقة، حيث هناك جرأة في طرح الأفكار، يكفي في هذا الصدد أن نعرض لأفكار الدكتور عبد الصمد الديالمي -أستاذ علم الاجتماع- التي يعرضها في الصحف والمؤتمرات ولطلابه في كلية الآداب، ومنها دعوته للعلماء السماح بإباحة الجنس، بدعوى توافر وسائل منع الحمل، التي تضمن ما اصطلح عليه الديالمي بــ (الأمن السلالي)، وكذلك يدعو للسماح بالإجهاض؛ بدعوى حرية المرأة في التصرف في جسدها.
هذا الجدل الفكري، وهذه الأطروحات الشاذة، المرتبطة بفكرة شيوع وسائل منع الحمل، ومن ثم إطلاق حرية العلاقات الجنسية دون زواج، وعلى الرغم من ذلك فإن المجتمع المغربي يئن تحت ضغط انتشار ظاهرة الأمهات العازبات؛ لتسجل أرقاماً غير مسبوقة، حيث توضح الأرقام المتوافرة أنه يتم تسجيل نحو 30 ألف حالة سنوياً، غالبيتهن من الشابات اللواتي لم يسبق لهن الزواج، واللاتي تقل أعمارهن عن 26 سنة. بل إن 32 % منهن ما بين الـ 15 والـ 20 سنة؛ مما يعني أن ثقافة (السيداو) وجدت متنفسًا نسبيًا في البيئة المغربية، وإن لم تنجح جميع تقنياتها كآلية منع الحمل في التقليل من الآثار المجتمعية لها.
____________
*المصدر: موقع الراصد، 3/7/2016
(1) موقع منظمة الصحة العالمية، تنظيم الأسرة، فوائد تنظيم الأسرة.
(2) المصدر السابق.
(3) هدى عبد المنعم، دراسة الوثائق الدولية من جوانبها المختلفة: اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو).
(4) اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل، اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو).. رؤية نقدية من منظور شرعي.
(5) موقع البنك الدولي، Contraceptive prevalence, any methods (% of women ages 15-49)
(6) الصحة: 14 ألف رائدة ريفية و5500 وحدة طبية لتقديم خدمات تنظيم الأسرة، موقع اليوم السابع، 17 يناير 2016.
موضوعات ذات صلة: