احتياج المرأة للأمومة بديهية لا يختلف عليها اثنان، فالأمومة بالنسبة للنساء أمرُ فطري ٌغريزي، إلا أنه من سوء الطالع أن نحيا زماناً نضطر فيه إلى المناشدة بعدم سحب بساط الأمومة من تحت أقدام المرأة، وتحويلها من غريزة فطرية إلى مجرد وظيفة اجتماعية، يمكن لأي كائن القيام بها، بل وأي مؤسسة.
قد يكون هذا الكلام غريباً إلا أنه للأسف حقيقي، بل وتعدى مرحلة مطالبات لفئة من النساء ليأخذ صورة بنود في وثائق دولية، تحولت إلى تعهدات تلتزم الحكومات بإدماجها ضمن قوانينها الوطنية، حيث جاءت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والمعروفة اختصاراً بــ "السيداو" بالنص صراحة على هذا المفهوم (عدم الصاق الأمومة بالمرأة)، بجعل الأمومة مجرد "وظيفة اجتماعية".
تغيير الأدوار الطبيعية
وكي تتقبل المجتمعات هذا المفهوم، على الحكومات تهيئة المناخ لذلك بتغيير مادرج الناس على فهمه من إسناد أدوار بعينها للمرأة، أطلقت عليها الاتفاقية مفهوم "الأدوار النمطية"، وهكذا صارت الأدوار الطبيعية في عرف الهيئة الدولية نمطية تقليدية، على الحكومات اتخاذ كافة التدابير - إعلامية وتعليمية وقانونية- لتغييرها. (1)

تنص المادة (5/أ) على: "تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لتحقيق ما يلي:
(أ) تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة؛ بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على فكرة دونية أو تفوق أحد الجنسين أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة".
ولم تفسر الاتفاقية ماهية الأدوار النمطية، وإن كانت تعني أنه ليست هناك أنماط خاصة للنساء باعتبارهن نساء، وليست هناك أنماط خاصة للرجال باعتبارهم رجالاً، ومن ثم فهناك إمكانية واسعة لتبادل الأدوار، باعتبار الأدوار (محايدة).
ويأتي البند (ب) من نفس المادة ليكمل المنظومة فينص على: (5/ب) كفالة أن تتضمن التربية الأسرية فهماً سليماً للأمومة بوصفها وظيفة اجتماعية، والاعتراف بالمسئولية المشتركة لكل من الرجال والنساء في تنشئة أطفالهم وتطورهم.
أي أن الأمومة ليست صفة لصيقة بالمرأة (صفة بيولوجية)، بل هي وظيفة اجتماعية يمكن أن يقوم بها أي إنسان آخر؛ لذا نادى تفسير الأمم المتحدة للاتفاقية بضرورة وضع نظام إجازة آباء لرعاية الطفل، وبضرورة توفير شبكات من دور رعاية الطفل، كي تتفرغ المرأة للعمل بأجر خارج البيت .
الأمومة.. سبب عبودية المرأة!!
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن لمصلحة من يتم محاربة الفطرة؟ ومن يسدد فاتورة هذا الفكر المدمر؟
للإجابة على هذا السؤال.. ابحث عن ظلم المرأة لبنات جنسها، تلك المرأة التي بلغت بها الأنانية، وعبادة الذات وحب الاستمتاع بالشهوات إلى التمرد على الفطرة السوية، حتى وإن أدى إلى رفض الأمومة والإنجاب، حيث صور لها خيالها المريض أن الإنجاب سيربطها بالبيت، وفي هذا تقليل من شأنها، ووجدت من يُنظّر لهذا، حيث أطلقت زعيمة الأنثوية الوجودية الفرنسية "سيمون دي بو فوار" على هذه الرسالة السامية مصطلح (عبودية التناسل).

وتأت أخرى "أوكلي" لتهاجم الأسرة نفسها، حيث تقول: إن إلغاء دور ربة المنزل، وذلك الافتراض التلقائي بأن دور المرأة هو تربية الأطفال، هي خطوات ضرورية في اتجاه تحقيق المساواة التي تنشدها النساء. وإن كانت هذه الخطوات هي في حد ذاتها ليست كافية، ذلك أنه ينبغي إلغاء مؤسسة الزواج أيضاً؛ لأنها معوق أساسي في سبيل المساواة بين الجنسين في مجال العمل. (2)
وتدعي فاير ستون (1970-firestone): "أن البطريركية ذلك النظام المخضع للمرأة يستمد جذوره من عدم المساواة البيولوجية بين الجنسين، ولذلك نرى - عكس الماركسيات - إن علاقات الإنجاب لا الإنتاج هي المحرك الرئيسي للتاريخ، لذا إذا أردنا أن نفهم علة خضوع النساء للرجال.. فنحن بحاجة إلى تفسير بيولوجي، فاضطهاد النساء يرجع إلى الاختلافات البيولوجية، ولذلك فان تحرر المرأة يتطلب ثورة بيولوجية في مقابل الثورة الاقتصادية التي قدمتها الماركسية لإنهاء اضطهاد العمال، ويمكن للتكنولوجيا أن تجعل هذه الثورة ممكنة".
وتقول في موضع آخر: "إن ارتباط النساء بعملية الإنجاب جعل من السهل على المجتمعات حصر النساء وربطهن بالإطار المنزلي الخاص، وإرسال الرجال إلى سوق العمل أو الإطار العام، ولذلك عندما تتوقف النساء عن الإنجاب واستهلاك ما ينتجه النظام الرأسمالي يختفي السبب المنطقي للاحتفاظ بهن في المنزل، وبذلك تنتهي الأسرة بوصفها وحدة اقتصادية... والآن طالما أن التكنولوجيا قد أعطت المرأة وسائل لتحديد النسل فإنه يوجد احتمال أكبر لتحقيق الفصل بين المهمتين (إشباع الغريزة والإنجاب)، وواقعاً أنه أصبح لدى العديد من النساء الآن الحرية التامة لاختيار أن ينجبن أطفالا". (3)
وتخطو "شولاميث فيرستون" خطوة كبيرة أبعد في هذا الاتجاه، بتطلعها إلى ذلك اليوم الذي لا يتم فيه القضاء على مؤسسة الزواج فحسب، بل وتتحرر فيه النساء تماماً من الحمل والإنجاب، وإذا ما كان ثمة أطفال من تبني وتأجير أرحام (تسليع الإنجاب) وغيره، فعلى الجنسين تقاسم الرعاية المنزلية، حيث تقول: "ونبغي أن يكون هدفنا أن يأتي اليوم الذي يتقاسم فيه الجنسان رعاية الأطفال. وهذا أمر لا غنى عنه، إذا كان للنساء أن ينعمن بالمساواة، وذلك لأسباب:
أولاً: أن الغالبية العظمى من النساء اللائي صرن أمهات، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكن أنداداً للرجال في القوة العاملة، أو في أي مجال من مجالات النشاط خارج البيت، في الوقت الذي تكون في حياتهن العاملة، خاضعة على مدى عدد من السنين لتأثير تحملهن للمسئولية الكاملة عن تربية الأطفال..
ثانيًا: من الواضح أن الأطفال يكتسبون الأدوار التقليدية للجنسين بتمثلهم لسلوك الأبوة كما يقول بارسونز، فالبنات والأولاد لا يمكن أن ينشئوا وقد تكون لدى هؤلاء وأولئك أفكار متفتحة عن أنفسهم وعن أنواع الحياة التي يريدها هؤلاء وأولئك في المستقبل.. إلا إذا شاهدوا البالغين - ولاسيما أقرب البالغين إليهم (الأبوين) – وهم يقومون بجميع أنواع الأدوار، ويعبرون عن أنفسهم من خلالها. ولا يمكن أن يتحقق أي من هذه الأهداف الثلاثة إلا إذا حدث تقاسم للأعمال المنزلية، وحلت "الوالدية" محل الأمومة..

ولكي يتحقق ذلك، لابد أن تحدث تغيرات كثيرة فيما يتعلق بالدمج بين الوظائف التي مازالت حتى الآن تعد الوظائف الخاصة وغير المنتجة للحياة الأسرية، وبين العمل العام المنتج في إطار اقتصاد السوق. فمن ناحية يمكن أن يتم القيام بالقدر الأعظم من الأعمال المنزلية الخاصة – ولاسيما رعاية الأطفال (ذلك العمل الذي يستغرق الكثير من الوقت) – خارج البيت. أحد الحلول لتلك المشكلة هو توفير مراكز الرعاية النهارية الجيدة المدعومة التي يمكن الوصول إليها، والتي يعمل بها أفراد من الجنسين..
ولابد أن يغير أصحاب العمل والمؤسسات من مواقفهم إزاء الرجال والنساء، ولابد أن يكفوا عن اعتبار النساء تابعات وملحقات بأزواجهن، مستعدات دائماً لأن ينقلن من مكان إلى آخر وكأنهن قطع أثاث. وأن يعطين وقتهن طواعية ومجاناً حتى يرتقي الرجال في مجال عملهم خارج المنزل..
وذلك لأنه من المفترض أن رجلاً يقوم بإعالتهن، وأن يكون لديهن الاستعداد لأن يقبلن طواعية تحمل مسئولية رعاية الأطفال تحملاً كاملاً. ويجب أن يقر أصحاب العمل والمؤسسات - وكذلك القانون - بأن الأب يتساوى مع الأم في قدر المسئولية التي يتحملها في رعاية أطفالهما..
لقد وصلنا في تطورنا التكنولوجي والاقتصادي إلى نقطة ينبغي أن تمكننا من الاستغناء عن الأدوار الجنسية تماماً باستثناء حرية اختيار المرأة لممارسة قدرتها الإنجابية". (4)
قد يقول قائل هذا فكر غربي "ولكل وجهة هو موليها"، نعم لهم حرية الاختيار، ولكن الطامه الكبرى في أن هذا الهراء تعد حدود التنظير والممارسات وصار واقعاً حياتيا لهم، بل ويطلب منا تعديل أنماطنا الثقافية والاجتماعية كي نحذو حذوهم.
ففي أحد التقارير المعبرة عن المنطقة العربية والصادرة عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي أسيا نص على: "وقد تزامنت الدعوة لخروج المرأة للعمل مع الخطاب الأيدلوجي الذي يؤكد الدور التقليدي للمرأة كأم وزوجة، فالمدرسة لا تعكس صورة حقيقية للمرأة كإنسان نشط وفعال اجتماعياً واقتصادياً، بل غالباً ما تصورها كامرأة ملتزمة بـ (الإنجاب والأمومة). ولا يسلم التشريع هو الآخر من التناقضات، ويتضح عدم المساواة في قوانين الأحوال الشخصية التي ترسخ وتقنن تبعية المرأة للرجل في مسائل الزواج والطلاق والسفر، ويبلغ إرث المرأة نصف إرث الرجل، ويحدث كل هذا في الوقت الذي وقّعت فيه الحكومات العربية على مواثيق حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وغيرها من الاتفاقيات الدولية. وفي مخالفة واضحة للدساتير التي تقر موادها بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في كافة المجالات". (5)
من يسدد الفاتورة ؟
إذا كان الغرب قد قطع شوطاً طويلاً في مسببات انهيار الأسرة وضياع معناها وقيمتها، من أم تفرغت لإثبات ذاتها خارج البيت، ومن ثم تخلت عن مسئوليتها الطبيعية تجاه أطفالها، وأب فاقد الثقة في نسب هؤلاء الأطفال إليه، كان البديل الأمثل أن يتدخل المجتمع ليحل محل البيت في العناية بالطفل.
وكما يقول المؤرخ الأوروبي (ول ديورانت): "الآن وقد أخذ البيت في مدننا الكبرى في الاختفاء، فقد فقد الزواج المقصور على الإنجاب على جاذبيته الهامة، ولا ريب أن زواج المتعة سيظفر بتأييد أكثر فأكثر، حيث لا يكون النسل مقصوداً، وسيزداد الزواج الحر.. مباحاً كان أو غير مباح، سينمو الطلاق، وتزدحم المدن بضحايا الزيجات المحطمة، ثم لا يلبث أن يصاغ نظام الزواج بأسره في صورة جديدة أكثر سماحة، وعندما يتم تصنيع المرأة، ويصبح ضبط الحمل سراً شائعاً في كل طبقة.. يصبح الحمل أمراً عارضاً في حياة الأم، أوتحل نظم الدولة الخاصة بتربية الأطفال محل عناية البيت". (6)
وقد ذكرت إحصاءات عالمية مؤخراً أن عدد العازبين والمطلقين سوف يزداد بنسبة 50%، في الوقت الذي ستنخفض فيه نسبة الزواج 15%، أي أن نسبة المتزوجين ستكون أقلية بين عدد سكان العالم، أما عدد الشباب العازبين بين 34 إلى 44 سنة فسيزيد 50% بين 2001 و 2011. وعن أهم ردود الفعل الأوروبية حول هذه الإحصائيات.. أكدت هيلين ويلكنسون - مديرة مشروع التخطيط والتفكير الشعبي الحر، التي تدرس التوجهات العامة في بريطانيا - أن النساء اليوم لا يتزوجن لأنهن لا يعدن يطلبن الدعم الاقتصادي من خلال الزواج، لقد باتت لديهن قوة ثقافية واقتصادية تسمح لهن بالتحرر المادي، مما سينتج مجتمعاً يتقبل العزباء واستقلاليتها. (7)

أما عن معاناة الأطفال الذين يسددون جزءاً من الفاتورة.. تقول (أنا فرويد): "إن تربية الأطفال في الملاجئ والمحاضن يولد الاضطرابات العاطفية والخلل النفسي، والانحرافات الشاذة". (8)
وقد درس عدد من الباحثين تأثير الافتقار إلى رعاية الأم على أطفال المؤسسات، وتبين لهم أن البيوت السيئة تكون أفضل - في الغالب - من المؤسسات الجيدة، واكتشف الباحثون كذلك أن الطفل المحروم لديه قدر كبير من الاضطراب وانفجارات العدوان، وقد لا يستطيع أن يبتسم أو أن يستجيب للمداعبة، وقد تكون شهيتة ضعيفة، وقد لا ينام جيداً، ولا يبدي أي مبادأة، (9) ناهيك عن السلوك العدواني الناجم عن العقد والاضطرابات النفسية كسلوك تعويضي.
كما أظهرت دراسات أخرى على نماء الدماغ أهمية العلاقة بين الأم وطفلها في غضون الأشهر الأولى من حياته، فالطفل الذي اعتاد على سماع صوت أمه وهو في الرحم.. يخرج إلى الدنيا وهو يتلمس الضياء في عيني والدته. والصلة اللصيقة بين الأم ورضيعها عامل أساسي في نمائه العاطفي، وهو أمر يغفل "أو يتغافل" عنه الذين يرجحون عمل الأم، مفضلين أن ترسل رضيعها إلى مراكز الرعاية النهارية. (10)
وهكذا فبعد أن كانت من يزعمن أنهن ( نصيرات للمرأة) ، وكن يؤكدن في البداية على أن المرأة يمكنها الجمع بيسر وسهولة بين مهام الأسرة والعمل الخارجي، دون أن يكون لهذا أدنى تأثير على أنوثتها.. صرن الآن يطنطن بسخط على تحمل المرأة كل هذه الأعباء، ويطالبن بالتضحية بالخاص لحساب العام، أي عدم اعتبار المرأة ربة بيت يثقل كاهلها بإنجاب ورعاية الأطفال.
وجل ما نخشاه الآن أن ينتهي نضالهن المزعوم لتحرير المرأة بأن تتحلل كل نساء العالم - بمباركة الحكومات وتحت مظلة الأمم المتحدة - من كل الالتزامات والمسئوليات، وأن تنهل من الحرية حتى الثمالة دون أن تلتزم بزوج أو تربية أبناء، الأمر الذي سوف يقود العالم كله إلى فوضى، تكون المرأة هي أول ضحاياها.
المصدر: موقع بوابتي.
____________________
1- The Advancement of Women 1945-1995 ,The United Nations Blue بعنوان Book s Series VOL.ISBH92-1-1-100567 United nation Publications (1)p.560-578
2- لمزيد من التفاصيل حول هذا الفكر الأنثوى انظر: مثنى أمين الكردستاني، حركات تحرير المرأة من المساواة إلى الجندر، دار القلم، 2004.
3- سوزان موللر أو كين، النساء في الفكر السياسي الغربي، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة الأسرة، 2005، ص 337.
4- النساء في الفكر السياسي الغربي 339 : 341.
5- اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي أسيا، سلسلة دراسات عن المرأة الغربية في التنمية، تغير القيم في العائلة العربية، أعدت هذه الورقة كلاً من الدكتورة ثريا التركي، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والدكتورة هدى رزيق، الجامعة الأمريكية، بيروت، ص 11، ص 12.
6- مباهج الفلسفة ص 235، 236، نقلاً عن محمد قطب، جاهلية القرن العشرين، دار الشروق، 1981م، ص 176، 177.
7- صوت الأزهر، 15/10/2004.
8- سيد قطب، في ظلال القرآن، الجزء الأول، ص 236.
9- حسين عبد الحميد رشوان، الطفل: دراسة في علم الاجتماع النفسي، المكتب الجامعي الحديث، ط2، 1990، ص 85/86.
10- المرأة المسلمة وقضايا العصر، الدكتور محمد هيثم الخياط، سفير الدولية للنشر، 2007.